حرب اليمن التي اقتلعت جيلين من المثقفين
يمنات
عبد الباري طاهر
الحب – بالمعنى العام – ليست نفياً وتهديداً للحالة الإنسانية فحسب، بل هي إحلال للرصاصة محل الكلمة، وجعل القوة فوق الحق، وتسويد للعنف الأعمى، واغتيال للحياة؛ فـ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. والحرب في اليمن، سردية كبرى، تدشن الزمان والمكان لآماد متطاولة. فالحرب مساءلة عن انهيار حضارات معين، وسبأ، وحمير، وانهيار السدود، وتمزق وحدة البلاد. و”تفرقوا أيدي سبأ” المثل المعبر عن الشتات الذي أصاب اليمنيين منذ فجر التاريخ. فبمقدار ما كان التوحد والتعاون، والأمن والسلام هي الأرضية الخصبة والصالحة لازدهار الحضارة والحياة والتقدم، بمقدار ما كانت الحرب هي الداء الوبيل الذي دمر الحضارة والتجارة والزراعة، ومزق اليمن شر ممزق.
قامت الوحدة اليمنية في الـ 22 من مايو 90، بعد حروب وصراعات مريرة بين الشمال والجنوب، وبين الجنوب والجنوب، والشمال و الشمال. مثلث الوحدة السلمية آنئذٍ مصالحة وطنية ومجتمعية كبرى، لكن قوى الغلبة والقوة والتفرد التي لا تريد الشراكة، ولا تقبل بالآخر، ولا تحترم حق كل أبناء اليمن في بناء دولتهم، وتمثيل وحدتهم الوطنية – انقضت على الحكم؛ لأنها لا تستطيع الاستنقاع في الحكم إلا بالقوة؛ فأعلنت الحروب المتواصلة على شعبها. “لنا الصدر دون العالمين أو القبر!”.
المحزن أن الصدر دائماً يكون لهم، ويكون القبر مأوى للفقراء والبائسين. فالقتلى في الحروب المهلكة في اليمن منذ 21 سبتمبر، وما قبلها وما تلاها يصلون إلى عشرات الآلاف، ويبلغ مشردوها بالملايين، وقتلى مجاعتها والأوبئة الناجمة عنها بالآلاف، وكذلك قل عن المعاقين بسبب الألغام، وجرحى الحرب، والأسرى والمعتقلين السياسيين.
السياسيون والصحافيون والمثقفون الموزعون على خارطة الحرب، والمنحازون للمليشيات، يقرؤون الحرب من فوهة البندقية وأزيز الرصاص، وتدهشهم أخبار الصواريخ البالستية، لكنهم لا يعنيهم قصف المدن والقرى والمدارس والمستشفيات والآثار والطرقات وقوارب الصيد والجسور والمنشآت الاقتصادية؛ فهم صم بكم إزاء كل ذلك، وإزاء القتلى والجرحى والمشردين.
الحرب حولت اليمن إلى أسوأ كارثة على وجه الأرض – كتوصيف التقارير الدولية والمراقبين والإعلام – وهو وصف صائب ودقيق، شواهده ظاهرة في مختلف ميادين الحياة، وتُلمس بالعين غير العمياء. فالحياة العملية للزراعة والفلاحين معطلة في عموم اليمن، والنشاط التجاري غائب ومُصادر، والاصطياد في البحر يمثل خطورة كبيرة، حتى صالات العزاء والأعراس لم تُستثن من قصف الطيران.
في دراسة للباحث متعدد المواهب الدكتور علي محمد زيد، الخبير الدولي لليونسكو، رصد فيها الآثار الكارثية للحرب على التعليم والثقافة والحياة العلمية والأدبية. يقرأ الدكتور الدمار الهائل الذي ألحقته الحرب – على جميع المستويات – في التعليم والثقافة، ويرى – وهو على حق – أن اليمن في تاريخها كله لم تشهد دماراً وخراباً وتهديداً للحياة الطبيعية، وللمدن والقرى والحجر والبشر وللتراث المادي والمعنوي – بهذا الحجم والاتساع، حسب قراءته الصادقة.
يقرأ الدكتور الكارثة في تفاصيلها الساحقة الماحقة على الحياة برمتها، كما يقرأها في الأضرار التي لحقت بالتعليم والدراسة والمدارس والمعلمين والطلاب، وأثرت على إنتاج الكتاب والتدريب والتدريس والتأهيل. كما يقرأ الآثار التدميرية على الثقافة والأنشطة المتعلقة بها، وعلى الآثار والمدن التاريخية، وعلى الحياة الأدبية، والأنشطة الإعلامية، وتوقف نشاط المراكز البحثية والتعليمية والندوات والمحاضرات وحتى برامج التلفزيون، والأخطر مصادرة الحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.
يشير إلى أن الحرب قد اقتلعت جيلين من المثقفين والصحافيين والأكاديميين والناشطين، داعياً إلى المعالجات المهمة والضرورية لوقف الدمار المتواصل، والبدء في معالجة آثارها. والملمح الأهم في البحث العلمي القيم وضع هامش لرصد ما ألحقته الحرب من الأضرار بالمدارس والطلاب والتدريس.
نقابة هيئة التدريس في جامعة صنعاء، تعرض أساتذتها الأجلاء، ومنهم الدكتور: عبد الله العزعزي، ود. محمد الظاهري، ود. عبد الله الفقيه- للاعتقال، والاعتداء، والضرب، والتهديد بالقتل، وتوقف نشاطها تحت حمى الإجراءات القاسية والعنف، وغابت- أو بالأحرى- غُيب نشاط نقابة المعلمين، وهي من أقوى النقابات وأنشطها، وتوقفت، أو أُوقفت “مؤسسة العفيف”، وهي مؤسسة ثقافية رائدة، ولعبت دوراً مهماً في الحياة الأدبية والثقافية لعقود، كما دمرت الحرب “مؤسسة السعيد” ومكتبتها، وهي المؤسسة العلمية والثقافية الرائدة التي اضطلعت بدور مشهود في الأسابيع الثقافية، وتشجيع البحث العلمي، ومنح جوائزها التشجيعية للباحثين، وطباعة أبحاثهم. لقد كانت هذه المؤسسة معلماً ثقافياً وعلمياً من أهم معالم مدينة الثقافة تعز.
خفتت أصوات الإبداع والتجديد الآتية من حضرموت، وهي رافد مهم من أهم الروافد الأدبية والثقافية، وغاب نشاط مدينة عدن، و”منتدى الطيب”، و”مقيل باشراحيل”، ومثلها عشرات الأندية الثقافية في صنعاء وتعز والحديدة وإب وذمار التي كان لها نشاط أدبي وثقافي مائز في أزمنة ما قبل “الحريق”.
وقد اضطلعت زبيد، وجامعتها العريقة وشبابها الفتي، بدور رائع في الحياة الثقافية والأدبية، وقام الصندوق الاجتماعي بإصدار كتاب توثيقي مهم للحرف ومختلف المهن والصنائع، وتقاليد البناء والفنون في هذه المدينة، وتولى الأساتذة: أمة الباري العاضي، والأستاذ زيد الفقيه، بالاشتراك مع فريق من أبناء زبيد؛ التوثيق لهذا الإنجاز، وإصداره. وقد سبق هذا النشاط المركزان: الفرنسي والألماني؛ فقد عمل الأستاذ عبد الرحيم جازم على إصدار كتاب “نور المعارف” عن الدولة الرسولية من خلال المركز الثقافي الفرنسي، وقام الأستاذ عبد العزيز الحلاج – من خلال عمله كخبير دولي بدعم من الألمان- بالإشراف على الحفاظ على مدينة زبيد التاريخية، وطرائق البناء فيها والتي صنفتها اليونسكو من مدن التراث العالمي.
ولا ننسى اهتمام المؤرخ عبد الرحمن الحضرمي بهذه الجامعة العريقة وتاريخها الثقافي والعلمي، كما لا ننسى أيضاً كتابات عبد الرحمن بعكر وإسهاماته.
الحرب الآن تحاصر مدينة زبيد من كل الاتجاهات، وقد تعرضت أحياء المدينة للقصف الجوي، ونناشد اليونسكو التدخل الفوري بإصدار نداء لأطراف الحرب في تجنيب المدينة التاريخية الحرب وتداعياتها الخطيرة؛ لأنها كنز ومعلم تاريخي وعالمي لابد من حمايته والحفاظ عليه كتراث عالمي.
الاعتقاد بأن السلام يخدم أو يصب في مصلحة الحوثي أو الشرعية خطأ. فالسلام مصلحة عامة وضرورة حياتية لكل فئات وشرائح الشعب اليمني بمختلف مناطقه وقبائله وطوائفه. والحرب الأهلية – بالأساس – ذريعة للتدخل الأجنبي. وتترافد الحرب الداخلية والخارجية، ويعطي كل منهما المبرر للحرب واستطالتها. ضحايا هذه الحرب الأهلية كل أبناء الشعب اليمني التواقين للأمن والسلام والاستقرار، أما أعداء الشعب في الداخل والخارج فهم المستفيدون الوحيدون من حرب دمرت الكيان اليمني، وتغتال مستقبل أبنائه.
المصدر: العربي
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.